...على أعداء الولايات المتحدة أن يدركوا أننا نصبح حمقى إذا ما ضربت مصالحنا. وعندها لايستطيع أحد التنبوء بما قد نفعله بما لدينا من قوة تدميرية هائلة. وعندها فقط سيرتعد اعداءنا خوفا" منا…
الرئيس ريتشارد نيكسون
ولعل ما يشهده العالم بعد حوادث نيويورك وواشنطن هو تطبيق لهذه المقولة النيكسونية. التي تنطوي على التهديد باستخدام القوة بدون حكمة. وهو المعادل الرسمي للإرهاب. حيث نسبية الحق والمصالح المبنية على هذه النسبية تحول الساحة الدولية إلى نوع من التحاصص. بما يجعل تجنب الحروب ممكنا". فالحروب تنجم عندما تفكر احدى الدول بالحصول على حصة أكبر من الحصة المقررة لها.
هذا من الناحية السياسية التاريخية ولكن ماذا عن الناحية السيكولوجية في زمن بدأ الإنسان الفرد يستعيد قيمته وقدرته على الفعل؟. وهي قيمة تتنامى في عصر المعلومات. الذي حول ميول التعميم الى السذاجة. اذ تمكن ذلك الشاب الفليبيني البالغ 26 عاما" من الحاق اضرار قدرت بمليارات الدولارات عبر فيروسه المسمى "أحبك" ( I Love You ) . مما أعاد للسيكولوجيا دورها عبر عودة القيمة الفردية. وذلك بعد أن بدأ الكلام عن نهاية السيكولوجيا باعتبار المجتمع البشري مقسم الى مجموعات تشترك في قالب سلوكي مشترك ترسمه الانثروبولوجيا. ومع ذلك فان السياسة لم تتوقف يوما" عن محاولات تسخير العلوم الإنسانية لمصلحتها. والسيكولوجيا في مقدمة هذه العلوم المسخرة. واذا كنا في مجال الحديث عن الصراع الأفغاني الأميركي ، المنطلق من مبدأ حماية المصالح من الإرهاب ، فلا بد لنا من مراجعة محاولات توظيف السيكولوجيا في مجالات حل الصراع ومكافحة العنف والارهاب . وهي ميادين تبدو للوهلة الأولى متباعدة لكنها واقعا" مترابطة متلاصقة بفضل توظيفاتها السياسية وانحيازها لمصلحة الأطراف الأكثر تقدما" في مجال السيكولوجيا.
بداية أورد حكاية رواها لي أحد عجائز علم النفس في العالم العربي ،البروفسور كمال دسوقي، فقال بانه دعي في السبعينيات لحضور مؤتمر نفسي عالمي فاذا بالتوصيات تطالب العرب بعدم وقف ضخ نفطهم لأن ذلك يؤثر في التوازن النفسي والصحة النفسية للشعوب! وفي هذا دعوة لاعتبار محاولة دعم الحقوق العربية باستخدام سلاح النفط محاولة ارهابية!. بعد هذه الحكاية دعيت شخصيا" إلى مؤتمر عربي لحل الصراعات وكم كان بودي لو تمكن السيكولوجيين العرب من المساهمة في هذا المجال. الا أن المفاجأة كانت في الحضور الإسرائيلي الكثيف في ذلك المؤتمر. وهو حضور يوحي بضرورة استمرار الخلافات العربية-العربية وتأجيلها الى ما بعد حل الصراع مع إسرائيل. وهذا المؤتمر – الفخ يدخل في إطار ما يسمى بدبلوماسية الأبواب الخلفية. فحين تغلق الأبواب الأمامية ( التفاوض السياسي) تفتح الابواب الخلفية عبر لقاءات المثقفين والاكاديميين. لذلك كان من الطبيعي أن اغير كلمتي المعدة للمؤتمر واستبدلها بكلمة مناسبة للمقام. فبدأت الكلمة برواية محاكمة لاسكندر للقرصان ودفاع هذا الأخير عن نفسه بقوله للاسكندر: " أنا أسرق سفينة فأدعى قرصانا" وأنت تسرق العالم فتدعى إمبراطورا" ". وهذه الحكاية المروية على لسان القديس أوغسطين تلخص نسبية الإرهاب وقدرة القوي على استصدار براءة لإرهابه.
السيكولوجيا من جهتها لأتقبل المبدأ الروماني (القائل بضرورة أن تكون مجنونا" إذا كنت تعيش في مجتمع مجانين). وعليه فإنها لأتقبل باعتماد الدلالات الدارجة والمتعارف عليها للاضطرابات. ولو نحن اعتبرنا الإرهاب واحدا" من الاضطرابات النفسية التي تلحق الضرر بالمجتمع الإنساني وتهدد أمنه فان لهذا الاعتبار قواعده العلمية وليس السياسية. بمعنى أن وضع تشخيص الإرهاب لابد له من أن يستند الى مؤشرات موضوعية تدعم هذا التشخيص. أما أن تقوم جهة ما (السلطة أو دولة ما أو جماعة ما) بوضع التشخيص وفق معايير مصلحتها فان ذلك مرفوض من الوجهة الاختصاصية. وعليه فان هنالك ضرورة لإيجاد معايير موضوعية لتشخيص حالات الإرهاب. وأولى شروط هذه المعايير هو أن تكون عالمية. بمعنى قابليتها للتطبيق على الجميع ( أي على الاسكندر والقرصان معا"). فإذا ما استحال ذلك فان من مصلحة الاختصاص عدم التورط في هذه التشخيصات. مع اعتبار المتورطين مسيئين لا علاقة لهم بالاختصاص سوى أنهم يسيئوا استخدامه.
بهذا نكون قد وصلنا الى ضرورة المناقشة العلمية الهادئة لمفهوم الإرهاب. وهي مناقشة تستبعد محاولات توظيف التفوق السيكولوجي للدول القوية ومن يمثلها من باحثين وعلماء. في هذه المناقشة يمكننا تقسيم أنماط الصراع إلى صداميه مباشرة وهي الحروب. والى صداميه متخفية وهي الضربات المقسطة والمفاجئة التي تدرج في قائمة الإرهاب. والتفاوض الذي يعني إقرار الأطراف بعجزها عن حل صراعها بالقوة. أو على الأقل إقرارها بفداحة الثمن الذي تتطلبه القوة لحل الصراع.
فاذا ما أخذنا تلك الجزئية المسماة إرهابا" فاننا نجد أن الطرف المعتدي يعتبرها وسيلة للحصول على ما يعتبره حقا". في حين يعتبرها الطرف المتضرر إرهابا". وهذه سنة الصراع الإنساني منذ بدء الخليقة وحتى اليوم. الا أن الحضارة الإنسانية المعاصرة تمكنت من تقنين مسألة استخدام القوة عن طريق وضع القوانين الضابطة لهذا الاستخدام (تحييد المدنيين والحد من الضحايا البشرية، ومنع قصف المؤسسات الإنسانية والمحايدة وتوابعها، تحريم الإبادة، بالإضافة الى القوانين التي تحاكم مجرمي الحروب…الخ). ويمكن القول بأن هذه الضوابط تمكنت من الحد من الاستخدامات المباشرة للقوة. إلا أنها دفعت بالأقوياء لاختراع وسائل جديدة لممارسة قوتهم بالطرق غير المباشرة وعن طريق الحروب الصغيرة والمقسطة والرمزية وغيرها من حيل استخدام القوة بالواسطة. حتى أمكن القول بأن كل هذه الصراعات هي إرهاب يقف وراءه الأقوياء عن طريق مرتزقة يخدمون مصالح هؤلاء الأقوياء. وهذا ما يثبته السلوك الرسمي الأميركي في حوادث سينسيناتي الأخيرة (أبريل 2001) وقبلها لوس انجلوس وليتل روك وغيرها. كما تثبته الصلاحيات المعطاة للمخابرات الأميركية بعد الثلاثاء الأميركي. وهي صلاحيات تتطابق مع ما كان يسمى أميركيا" بالقمع الديكتاتوري والتعدي على حقوق الإنسان. وهي تهمة أميركية طاولت الدول المطبقة للشريعة الإسلامية. وكأنها المقدمة لاتهام الإسلام بالإرهاب.
وهنا لابد لنا من التفريق بين الإرهاب التابع للجريمة (وهو إرهاب يوقع ضحاياه لخدمة أغراض فردية أو مجموعة إجرامية منظمة) وبين الإرهاب المنطلق من مثاليات محددة. وهذا الإرهاب المثالي يقسم بدوره إلى فروع. فإذا كان الإرهاب بسبب تعجيل الحصول على الحقوق فهو اعتداء. أما الإرهاب الذي يأتي كردة فعل على كارثة معنوية تصيب شعوبا" بأكملها ويتوجه مباشرة إلى المعتدي المتسبب بهذه الكارثة فان هذا الإرهاب يندرج في قائمة الحقوق. وفي مقدمتها حق مقاومة الاحتلال. إذ أنه من غير العادل أن يسمح لطرف بالتسبب بكارثة معنوية للطرف الآخر فيترك المعتدي دون عقاب. ويتهم الضحايا المدافعون عن جماعاتهم ومثالياتهم بالإرهاب. خصوصا" وأن الكارثة المعنوية أكثر تسببا" بالأذى من تلك المادية. فالكارثة المعنوية تتخطى حدود الأفراد وتجعلهم يحسون بلا جدوى الحياة. بما يجعلهم جاهزون للموت دون تردد. ومثل هذه الجهوزية ضارة بالحضارة الإنسانية سواء ترجمت بالإرهاب أم لم تترجم. فهذه الجهوزية هي عار على هذه الحضارة ودليل على اختلال معاييرها وقواعدها.
وفي عودة إلى الثلاثاء الأسود فان السيكولوجيا تنظر لعمليات ذلك اليوم على أنها إرهاب ناجز وكامل. إذ لا توجد مبررات يمكنها الدفاع عن هذه العمليات وتبرير الضحايا البشرية الناجمة عنها. ألا أننا نتوقف لنسأل عما اذا كانت هذه الحوادث مجرد عمليات أم أنها حرب من الحروب المقسطة. فما ينطبق على الحروب لا ينطبق على العمليات. بما يستتبع القول أن الضحية لها أن تحاكم المعتدي عليها. لكنها لا تملك حق اختيار العدو بل عليها أولا" أن تحدد هذا العدو بدقة فائقة قبل أن تحاكمه وتنتقم منه.
ان على الولايات المتحدة أن تدرك أن ذلك الثلاثاء قد غير العالم. وأنه ليس من مصلحتها أن تثبت أعداءها وتهمل الأعداء الجدد المحتملين. فهذا الثلاثاء يأتي بعد وعود النهايات التي انطلقت من صدمة أصابت الولايات المتحدة بسبب فقدانها للعدو(1). فمع سقوط جدار برلين اختفى العدو ولم يعد للشيوعية وجود مادي يتحدى الليبرالية الأميركية. فكانت فرضية النهاية الأولى هي فرضية "نهاية الشيوعية". وهي النهاية التي استتبعت بقية النهايات فكانت "نهاية التاريخ" و "نهاية الايدولوجيا" و "نهاية الحدود" ومعها "نهاية الدولة الوطنية" عداك عن "نهاية القوميات" وغيرها من النهايات وصولا" إلى "نهاية العلم" التي أطلقها جون هورغان.
هورغان كان أكثر مطلقي النهايات صراحة ونضجا". اذ أعلن في مقدمة كتابه أن النهايات مشكوك بأمرها وهو ينشر كتابه لأنه وجد ناشرا" ينشره. وبذلك فهو يسخر من النهايات ولو بشكل مستتر. لكن السخرية الحقيقية من النهايات تكرست في حوادث الثلاثاء 11/9/2001 التي قضت على كل فرضيات النهاية فأحدثت بذلك فوضى فكرية أميركية لم يتطرق إليها كثيرون بسبب الانشغال بحوادث الثلاثاء وبالأحداث المتفرعة عنها.
ولنستعرض معا" دلالات ذلك الثلاثاء وأثرها على النهايات لنجد:
1. أن انتحاريين قاموا بعمليات الثلاثاء. ومهما تكن هوية هؤلاء فان إيديولوجيا ما تكمن وراء تضحيتهم بحياتهم. فالايدولوجيا وحدها القادرة على إقناع شخص ما للتضحية بحياته. وهذا يعني سقوط فرضية نهاية الإيديولوجيات.
2. ان تضحيات الحروب الصغيرة المتفرقة خلال التسعينيات بينت استمرار التاريخ والإيديولوجيات وأجبرت فوكوياما ،صاحب نظرية "نهاية التاريخ"، على تعديل نظريته ومراجعتها. وهذا يعني سقوط فرضية نهاية التاريخ (2).
3. إن حوادث الثلاثاء هي بحد ذاتها إعلان عن وجود عدو فاعل لنمط الحياة الأميركي ولنظرية السوق الأميركية. حيث نجح هذا العدو في نقل المواجهة من صعيد "من هوا لأقوى" إلى صعيد "من هو الأقدر على التسبب بالأذى". نازعا" عن الولايات المتحدة العنصر الأهم في عنجهيتها وهو عنصر التفوق العسكري. وهذا يعني سقوط فرضيات القوة العسكرية ومعها الجدار الصاروخي(3).
4. أنها بينت استحالة "صدام الحضارات". اذ احتاجت الولايات المتحدة لجمع الحلفاء والموافقات المعقدة قبل صدامها مع أفقر دولة في العالم عنينا بها أفغانستان. كما أنها اضطرت للقبول بانقلاب استراتيجي عبر تعاونها مع باكستان التي بقيت مصنفة كمارقة لغاية 14/9/2001 عندما بدت مستعدة للتعاون مع الولايات المتحدة. وهذا يعني أن الثوابت الإستراتيجية الأميركية أصبحت مرشحة للانقلاب (4).
5. أن اعتراف الولايات المتحدة باستمرار الإيديولوجيات لم يقف عند محاربتها العلنية لجماعة دينية بل تعدى ذلك إلى احترام التنوع العرقي الأفغاني في محاولات الالتفاف على طالبان. وهذا يشكل عودة للقوميات بعد أن أعلنت وفاتها مع إعلان نهاية القوميات.
6. أن حاجة أميركا الى عدو هي حاجة حيوية لدرجة قبولها خوض الحرب ضد أفراد. واضطرارها لإيجاد عدو جاهز يساعدها على تقنين ذعر الأميركيين والهيستسريا الجمعية التي اجتاحتهم اثر حوادث الثلاثاء. وهذا يسقط كل نظريات الأحادية العالمية.
7. أن جهوزية الرأي العام الأميركي لاتهام الشرق أوسطيين بحادثة أوكلاهوما (1995) ،ومن ثم اتهام بن لادن بحوادث الثلاثاء دون أي تردد أو تشكيك، هي جهوزية تعكس خوف هذا الجمهور من المجهول وحاجته الملحة لتعريف العدو. ذلك أن العدو الخفي أكثر اثارة للخوف. وهذا يؤكد على واقعة كون نمط الحياة الأميركي مجرد نمط سلوكي قابل للتغيير وحتى للانقلاب في حالات تهديد الرخاء الداعم لهذا النمط.
8. أن الأزمة الاقتصادية الأميركية السابقة لذلك الثلاثاء وحجم المساعدات (ضخ الأموال في السوق الأميركية) التي احتاجها هذا الاقتصاد يبينان هشاشته وقابليته للانهيار. وليس أدل على ذلك من انخفاض مؤشر داو جونز 684 نقطة يوم عودة افتتاح البورصة في 17/9/2001 مما يؤكد واقعة عدم قابلية نظام السوق للعولمة. بما يعادل سقوط العولمة الاقتصادية التي لم تكن سوى أمركة الاقتصاد العالمي (5).
9. أدت حوادث الثلاثاء الى تهديدات جدية لاقتصاديات الدول المرتبطة بأميركا. ومن هنا اقدام هذه الدول على دعم الاقتصاد الأميركي لأن انهياره يعني انهيارها تاليا". مما سينعكس لاحقا" بمحاولة هذه الدول فك ارتباطها بالاقتصاد الأميركي. الأمر الذي سيبدل "نهاية التاريخ" ب "نهاية السوق"!.
10. أبرزت حوادث الثلاثاء أزمة الاعتراف لدى شعوب العالم الثالث. حيث أدت العولمة الاقتصادية الى تكبيد هذه الدول لخسائر غير محتملة وأجبرتها على تقديم تنازلات قاسية. حتى باتت شعوب هذه الدول باحثة عن الاعتراف ( بالمعنى الهيغلي/ نسبة الى الفيلسوف هيغل). الذي يتعلق بكرامة هذه الشعوب وكيانها. بحيث يمكن للاعتراف أن يكون مولدا" للصراعات والحروب بغض النظر عن المصالح واتجاهات موازين القوة. فاذا ما قارنا هذا الاضطهاد بمثيله الالماني خلال فترة ما بين الحربين العالميتين لوجدنا انه يؤسس لقيامة الفاشية (6).
11. ان مراجعة التدابير الأمنية الوقائية في الولايات المتحدة عقب الثلاثاء. ومن ثم الصلاحيات الاستثنائية التي منحها الكونغرس للمخابرات ومعها معونة عشرة مليارات دولار يتبعها مبلغ سنوي بقيمة ثلاثة مليارات دولار لمكافحة الارهاب الداخلي. تبين أن العولمة نفسها باتت بحكم المنتهية. اذ أن "نهاية العولمة" تكرست مع الغاء السرية الشخصية والمصرفية ومع وضع الحدود لحرية الاتصالات والخوف من ركوب الطائرات. وهي نهاية دشنتها مظاهرات سياتل حيث صرح رئيس منظمة التجارة العالمية بالقول: " اننا ندرك الآن أن أميركا ليست حليفنا فقد أنزل كلينتون 70 ألف متظاهر لمعاداة العولمة في سياتل ليدعم مرشحه آل غور".
انطلاقا" من النقاط المعروضة أعلاه نجد أن النهايات تشهد انقلابا" جذريا" عقب الثلاثاء. فالعالم قبل ذلك الثلاثاء هو غيره بعد ذلك اليوم. حيث سقطت النهايات المطروحة في التسعينيات لتحل مكانها نهايات العولمة ودولة ما بعد الحداثة وبدايات بعث الايديولوجيات والقوميات وكذلك انبعاث الفاشية التي أسس لها انتخاب هايدر زعيما" نمسويا". وبذلك ينتهي عقد التسيعينيات الطارح لفرضيات النهاية بنهاية تختصر كل النهايات وهي "نهاية العولمة". حول هذه النهاية يجب أن يتركز النقاش ومعه مراجعة الفوضى الفكرية لعقد التسعينيات. وهي فوضى كانت انعكاسا" للفوضى العالمية التي خلفها غياب الاتحاد السوفياتي وقصور الليبيرالية الأميركية عن الرقي الى مستوى النظرية الفكرية السياسية. فاندلعت الفوضى من اطلاق فرضية نهاية الفكر السياسي أو الإيديولوجيا.
في خضم هذه الفوضى أبحرت الولايات المتحدة محاولة أمركة العالم عن طريق عولمة "نمط الحياة الأميركي". هذا النمط الذي يرتكز إلى سياسة المصالح ليسقط المباديء. فتبين للولايات المتحدة أن أمركة العالم مكلفة ومتعارضة مع مصالحها. مما أدى بداية إلى زيادة التعصب لمبدأ السوق الأميركي. حتى تحول هذا المبدأ الى ايديولوجيا جديدة!. وهو أمر أوقع الليبيرالية في مأزق وجعل الإدارة الأميركية تدرك واقعة عدم قابلية مبدأها السوقي للعولمة. فكان أن بدأت هذه الإدارة بالانسحاب من العولمة. إلا أنها فضلت الخروج من الباب الخلفي متسللة كي لا تواجه العالم المتضرر من عولمتها.
أما عن علائم التراجع الأميركي عن العولمة فهي كانت كثيرة وان اتسمت بالتكتم والمواربة. ومن أهم هذه العلائم نذكر التالية:
1. معاودة إحياء حلف الناتو بإدخال تعديلات استراتيجية توسع نفوذه وتعطيه حقوق التدخل خارج أراضيه. الأمر الذي يعطل دور الأمم المتحدة في المناطق التي يعلنها الحلف متعلقة بمصالحه. بما يمكن اعتباره الخطوة القانونية الأولى نحو إلغاء دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن (7).
2. الإصرار الأميركي على توسيع الحلف بقبول أعضاء جدد فيه. بما يعكس ضمنا" الاعتراف بضرورة جمع الأصدقاء لمواجهة عدو ما. وكي لا تعترف الولايات المتحدة صراحة بوجود هذا العدو فقد كانت تلتف على هذا الاعتراف بالحديث عن الدول المارقة والداعمة للإرهاب والإرهاب نفسه. مما يعني أن هؤلاء يهددون المصالح دون أن يرقوا إلى درجة العدو. وجاء الثلاثاء ليعلن أن العدو الخفي للولايات المتحدة هو عدو مكتمل وقادر على إلحاق الأذى الفادح بمصالحها. وما اللجوء لاتهام جماعة توصف بالإرهابية في حوادث الثلاثاء إلا تهرب أميركي أخير من الاعتراف بوجود العدو. وبالتالي الاعتراف بنهاية العولمة ونظامها العالمي وقطبها الأوحد (.
3. إجبار دول الاتحاد الأوروبي على قبول تعديلات الناتو بما فيها تلك المتعارضة مع مباديء الاتحاد. بما يعتبر تدخلا" في الشؤون الداخلية للاتحاد ولدوله. الأمر الذي جعل دول الاتحاد تدرك مدى الغبن اللاحق بها بسبب الحلف وتحت حجته (9).
4. الإصرار على مشروع الجدار الصاروخي. الذي يلغي اتفاقية الحد من الصواريخ الموقعة عام 1979 مع الاتحاد السوفياتي. ويهدد المصالح الحيوية لروسيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي وهي دول أجمعت على معارضة هذا المشروع ولكن دون جدوى. مما جعل من العولمة مجرد شعار يغطي الأمركة بمعنى السيطرة الأميركية على العالم. وهي سيطرة انما ترمي الى تعزيز السيطرة الاقتصادية الأميركية.
5. خروج الولايات المتحدة على مباديء منظمة التجارة العالمية. وذلك عبر تخصيصها 4 مليارات دولار لدعم صادراتها ( تمنع قوانين المنظمة دعم السلع لتحسين قدرتها على المنافسة). بما يشكل أول أشكال الخروج على قوانين العولمة.
6. دعم كلينتون و الإدارة الأميركية لمظاهرات سياتل المعادية للعولمة. وهو ما أعلنه صراحة رئيس منظمة التجارة العالمية خلال مؤتمر جنيف للمنظمة. وهذا يعني تواطوء الإدارة الأميركية ضد دول المنظمة ومصالحها. الأمر الذي يجعلنا لا نتعجب من مشاركة إحدى هذه الدول في أحداث الثلاثاء.
7. استكمالا" لسياسة الأحلاف لم تكتف الولايات المتحدة بإحياء حلف الناتو بل هي شجعت الأحلاف الفرعية. مثل الحلف الإسرائيلي- التركي الطامح الى ضم دول مجاورة عديدة في محاولة لإحياء حلف على غرار حلف بغداد السيء الذكر.
8. الإصرار على الاستمرار في سياسة الحصار (متعدد الدرجات) يطبق على الدول المارقة. بما يعكس الاعتراف بوجود أعداء بغض النظر عن مدى فاعليتهم.
9. سياسة التكسب الأميركية بافتعال أو بتشجيع الحروب الصغيرة المقسطة. مثال ذلك حرب كوسوفو التي خاضها كلينتون دون أن يعلنها حربا". بما يستتبع التساؤل عن مشروعية محاكمة ميلوسوفيتش كمجرم حرب طالما أنه لم يعترف بها حربا". كما أن الصحافة الأوروبية تتفق على أن ميلوسوفيتش لم يرفض الاقتراحات الأميركية للسلام في كوسوفو. فجل ما فعله هو تقديم بعض الاعتراضات الشكلية. ومن هنا فان وقوع الحرب انما يعود الى رغبة الولايات المتحدة فيها وحاجتها لها. هذا عداك عن الضربات الأميركية المقسطة للعراق والتهديدات الموزعة على دول عديدة بوسائل مختلفة.
10. رفضت الولايات المتحدة إدراج النفط ضمن سلع منظمة التجارة العالمية وأيدتها في ذلك اليابان والدول الأوروبية (بوصفها دول مستهلكة تتضرر من ارتفاع أسعار النفط). لكن إدارة بوش رسمت استراتيجيتها الاقتصادية اعتمادا" على النفط. بحيث يمكنها إنقاذ اقتصادها عن طريق التلاعب بأسعاره. مما يؤدي إلى إجبار اليابان والاتحاد الأوروبي على تغطية أية خسائر أميركية مقبلة.
11. إكمالا" لسيطرتها على أسعار النفط عمدت الولايات المتحدة لتهديد السودان بحرب أهلية ان هو تمرد على سياستها النفطية. كما مددت لإيران خمس سنوات على قائمة الدول الداعمة للإرهاب. إضافة لتواجدها العسكري في الخليج العربي. ليبقى نفط القوقاز بحاجة إلى بعض الحروب الرمزية المقسطة للاستيلاء عليه.
12. اختراع مصطلحات طحلبية ( من طحالب) لتبرير التدخل الأميركي في شؤون الدول الأخرى. كمثل مصطلحات الإرهاب وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات والحقوق عامة.
هذه مجرد أمثلة على التمادي الأميركي في اعتماد سياسة المنفعة واستغلال الأصدقاء قبل الأعداء. هذا التمادي المصحوب بفوضى داخلية لم يعد تصديرها الى الخارج ممكنا" فكان انفجارها داخل أميركا. حيث المأساة الأميركية الراهنة هي مأساة اقتصادية. فهذأ البلد يفقد ألف شخص أسبوعيا" في حوادث السير. وبالتالي فانه قادر على استيعاب صدمة الثلاثاء خلال سبعة أسابيع ( بداية نوفومبر تكون الصدمة قد هضمت). وهو يملك سياسته واستراتيجيته الخاصة في التعامل مع العالم. فقط الاقتصاد هو نقطة ضعفه المميتة راهنا". والنفط العربي هو المنقذ الوحيد لهذا الاقتصاد. فبمراجعة مؤشرات الأسهم الأميركية نجد أنها لم تتوازن إلا بعد إنزال سعر برميل النفط إلى ما دون العشرين دولارا". حتى أنه انزل 4 دولارات دفعة واحدة وفي يوم واحد. ليشكل صدمة تجذب المضاربين لتريح الأسهم الأميركية. ولا نبالغ بالقول أن ارتفاع سعر البرميل إلى المستوى الافتراضي له في مثل الأزمة الحالية ( يفوق ال 50 دولارا") كفيل بعودة المؤشرات الأميركية للهبوط المريع. كما أننا لا نبالغ بالقول أن النفط هو منقذ الاقتصاد الأميركي خلال الفترة القادمة. وعليه فان على الولايات المتحدة أن تدرك أن بإمكانها ان تحصل على مفاجأة كسب أصدقاء عرب جدد ان هي أحسنت التصرف. وعلى المفاوضين العرب أن يدركوا إمكانية الصداقة المناسبة مع أميركا إذا كانت مرونتها كافية لدفع ثمن استراتيجي بسيط هو رفع الظلم عن كاهل الإنسان العربي ودوله. فالعلاقة بين الجمهور والسلطة مضطربة لكنها ثقافة لا تسمح بوساطة الغرباء. وخصوصا" الوساطة المفتعلة من أجل الأقليات. فالعروبة تجعل من أقلياتنا تتباهى بعراقتها وبفعاليتها الحضارية وليس بعدد اتباعها. ذلك أن قوميتنا لا تصنف الإنسان وفق أي من محاور الانتماء الثانوية. فالمحور الأساسي لثقافتنا هو القومية التي سبق وأن أعلنوا وفاتها. وإتهموا بالرومانسية كل المصرين عليها والمتمسكين بها هوية حضارية. وقد آن أوان الاعتراف بها. فالبحث عن هذا الاعتراف هو المحرك للشهداء الذين تساقطوا في الجنوب لغاية التحرير والذين يتساقطون في الانتفاضة وفي أكثر من مناسبة جالبة لهذا الاعتراف. فلتسجل الولايات المتحدة هذا الاعتراف لتكسب صداقة العرب المفاجئة. خاصة وأن الإصرار على إنكار القومية بات يصطدم بالشارع العربي الذي لم يعد قابلا" للسيطرة. بل أنه يهدد باعتماد توجهات وحلول قد تكون فائقة الصعوبة والأثر على المصالح الأميركية ومستقبلها في المنطقة.
الهوامش والمراجع
1. همس مستشار غورباتشوف المدعو جورجي آباتوف في أذن مسؤول أميركي كبير ،قبيل سقوط جدار برلين، بالعبارة التالية: " اننا نصيبكم بخطب جلل فنحن نفقدكم العدو!" وكان آباتوف على حق اذ فقدت المصالح الأميركية وجهتها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وهي لاتزال فاقدة للتوجه حتى اليوم. وهذا ما أكده الاستراتيجي الاميركي صموئيل هنتنغتون في مقالته المعنونة "تآكل المصالح الأميركية" The Erosion of American Interest . المنشورة في مجلة شؤون خارجية الأميركية.
2. كان فرنسيس فوكوياما قد طرح فرضية "نهاية التاريخ" العام 1993 وفيها رأى أن ليبيرالية السوق سوف تجتاح العالم دون منازع ودون صراعات. فلما استمرت الحروب الصغيرة خلال عقد التسعينيات قام فوكوياما بتعديل فرضيته قائلا" بأن الثورة البيولوجية ستدعم نهاية التاريخ. وكان لنا رد على هذا التعديل في مجلة "الكتب /وجهات نظر" ضحدنا فيها طروحاته القديمة او الجديدة.
3. بعد حوادث الثلاثاء لم يعد مشروع الجدار الصاروخي مقنعا" لأن الأذى يتأتى من جهة لايمكن للجدار تأمين الحماية منها.
4. كان فك الحصار عن باكستان ،الدولة المارقة المتحالفة مع الصين، والتحالف معها بداية الانقلابات الاستراتيجية الأميركية. والوضع الأميركي يستوجب سلسلة طويلة من هذه الانقلابات. التي ستشكل مفاجآت غير مرتقبة في السياسة الأميركية خلال الشهور القليلة القادمة.
5. أشار المضارب الشهير في البورصات المدعو جورج شوروش في كتاب له بعنوان " أزمة النظام الرأسمالي العالمي" الى عدم قابلية نظام السوق للعولمة بسبب وجود عدة فيروسات فيه تجعله غير قابل للاعتماد بشكله الحالي. وقد عرضنا للكتاب في كتابنا الصادر عن مركز الدراسات النفسية تحت عنوان " النفس المفككة/سيكولوجية السياسة الأميركية".
6. كان انخاب هايدر في النمسا بادرة ومقدمة للاعلان عن قيامة الفاشية. ويكفينا التذكير بالحماسة التي رافقت انتخابه وبالاصرار عليه رغم الضغوطات الاسرائيلية والأميركية والأوروبية.
7. ان الميثاق الجديد لحلف الناتو يعطي الحلف الحق بالتدخل في المناطق التي يعلنها حيوية لمصالحه دون استشارة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو أية جهة أخرى.
8. ان استمرار تجسيد وتكثيف العدو بشخص بن لادن سيدفع الولايات المتحدة لحمايته حفاظا" على عداوته. وهو مأزق لابد من الخروج منه قريبا". باعلان عدو أو أعداء جدد للولايات المتحدة.
9. تورطت دول الاتحاد بالانفاق على اعادة اعمار كوسوفو اضافة الى تورطها في الانفاق على حرب كلينتون الرمزية على كوسوفو. مما أدى الى تدهور سعر اليورو الوليد وطرح أعباء مالية ضخمة على دول الاتحاد. ومع مجيء بوش وتراجعه عن وعود كلينتون للأوروبيين عاد هؤلاء للحديث عن انشاء القوة الأوروبية للتدخل السريع. التي تعتبر تحديا" للولايات المتحدة. مع الإشارة الى رفض الاتحاد لمشروع الجدار الصاروخي. مما يبرر الاستنتاج بأن الاتحاد يعاني أو يحس بالاضطهاد الاميركي لدوله.
الرئيس ريتشارد نيكسون
ولعل ما يشهده العالم بعد حوادث نيويورك وواشنطن هو تطبيق لهذه المقولة النيكسونية. التي تنطوي على التهديد باستخدام القوة بدون حكمة. وهو المعادل الرسمي للإرهاب. حيث نسبية الحق والمصالح المبنية على هذه النسبية تحول الساحة الدولية إلى نوع من التحاصص. بما يجعل تجنب الحروب ممكنا". فالحروب تنجم عندما تفكر احدى الدول بالحصول على حصة أكبر من الحصة المقررة لها.
هذا من الناحية السياسية التاريخية ولكن ماذا عن الناحية السيكولوجية في زمن بدأ الإنسان الفرد يستعيد قيمته وقدرته على الفعل؟. وهي قيمة تتنامى في عصر المعلومات. الذي حول ميول التعميم الى السذاجة. اذ تمكن ذلك الشاب الفليبيني البالغ 26 عاما" من الحاق اضرار قدرت بمليارات الدولارات عبر فيروسه المسمى "أحبك" ( I Love You ) . مما أعاد للسيكولوجيا دورها عبر عودة القيمة الفردية. وذلك بعد أن بدأ الكلام عن نهاية السيكولوجيا باعتبار المجتمع البشري مقسم الى مجموعات تشترك في قالب سلوكي مشترك ترسمه الانثروبولوجيا. ومع ذلك فان السياسة لم تتوقف يوما" عن محاولات تسخير العلوم الإنسانية لمصلحتها. والسيكولوجيا في مقدمة هذه العلوم المسخرة. واذا كنا في مجال الحديث عن الصراع الأفغاني الأميركي ، المنطلق من مبدأ حماية المصالح من الإرهاب ، فلا بد لنا من مراجعة محاولات توظيف السيكولوجيا في مجالات حل الصراع ومكافحة العنف والارهاب . وهي ميادين تبدو للوهلة الأولى متباعدة لكنها واقعا" مترابطة متلاصقة بفضل توظيفاتها السياسية وانحيازها لمصلحة الأطراف الأكثر تقدما" في مجال السيكولوجيا.
بداية أورد حكاية رواها لي أحد عجائز علم النفس في العالم العربي ،البروفسور كمال دسوقي، فقال بانه دعي في السبعينيات لحضور مؤتمر نفسي عالمي فاذا بالتوصيات تطالب العرب بعدم وقف ضخ نفطهم لأن ذلك يؤثر في التوازن النفسي والصحة النفسية للشعوب! وفي هذا دعوة لاعتبار محاولة دعم الحقوق العربية باستخدام سلاح النفط محاولة ارهابية!. بعد هذه الحكاية دعيت شخصيا" إلى مؤتمر عربي لحل الصراعات وكم كان بودي لو تمكن السيكولوجيين العرب من المساهمة في هذا المجال. الا أن المفاجأة كانت في الحضور الإسرائيلي الكثيف في ذلك المؤتمر. وهو حضور يوحي بضرورة استمرار الخلافات العربية-العربية وتأجيلها الى ما بعد حل الصراع مع إسرائيل. وهذا المؤتمر – الفخ يدخل في إطار ما يسمى بدبلوماسية الأبواب الخلفية. فحين تغلق الأبواب الأمامية ( التفاوض السياسي) تفتح الابواب الخلفية عبر لقاءات المثقفين والاكاديميين. لذلك كان من الطبيعي أن اغير كلمتي المعدة للمؤتمر واستبدلها بكلمة مناسبة للمقام. فبدأت الكلمة برواية محاكمة لاسكندر للقرصان ودفاع هذا الأخير عن نفسه بقوله للاسكندر: " أنا أسرق سفينة فأدعى قرصانا" وأنت تسرق العالم فتدعى إمبراطورا" ". وهذه الحكاية المروية على لسان القديس أوغسطين تلخص نسبية الإرهاب وقدرة القوي على استصدار براءة لإرهابه.
السيكولوجيا من جهتها لأتقبل المبدأ الروماني (القائل بضرورة أن تكون مجنونا" إذا كنت تعيش في مجتمع مجانين). وعليه فإنها لأتقبل باعتماد الدلالات الدارجة والمتعارف عليها للاضطرابات. ولو نحن اعتبرنا الإرهاب واحدا" من الاضطرابات النفسية التي تلحق الضرر بالمجتمع الإنساني وتهدد أمنه فان لهذا الاعتبار قواعده العلمية وليس السياسية. بمعنى أن وضع تشخيص الإرهاب لابد له من أن يستند الى مؤشرات موضوعية تدعم هذا التشخيص. أما أن تقوم جهة ما (السلطة أو دولة ما أو جماعة ما) بوضع التشخيص وفق معايير مصلحتها فان ذلك مرفوض من الوجهة الاختصاصية. وعليه فان هنالك ضرورة لإيجاد معايير موضوعية لتشخيص حالات الإرهاب. وأولى شروط هذه المعايير هو أن تكون عالمية. بمعنى قابليتها للتطبيق على الجميع ( أي على الاسكندر والقرصان معا"). فإذا ما استحال ذلك فان من مصلحة الاختصاص عدم التورط في هذه التشخيصات. مع اعتبار المتورطين مسيئين لا علاقة لهم بالاختصاص سوى أنهم يسيئوا استخدامه.
بهذا نكون قد وصلنا الى ضرورة المناقشة العلمية الهادئة لمفهوم الإرهاب. وهي مناقشة تستبعد محاولات توظيف التفوق السيكولوجي للدول القوية ومن يمثلها من باحثين وعلماء. في هذه المناقشة يمكننا تقسيم أنماط الصراع إلى صداميه مباشرة وهي الحروب. والى صداميه متخفية وهي الضربات المقسطة والمفاجئة التي تدرج في قائمة الإرهاب. والتفاوض الذي يعني إقرار الأطراف بعجزها عن حل صراعها بالقوة. أو على الأقل إقرارها بفداحة الثمن الذي تتطلبه القوة لحل الصراع.
فاذا ما أخذنا تلك الجزئية المسماة إرهابا" فاننا نجد أن الطرف المعتدي يعتبرها وسيلة للحصول على ما يعتبره حقا". في حين يعتبرها الطرف المتضرر إرهابا". وهذه سنة الصراع الإنساني منذ بدء الخليقة وحتى اليوم. الا أن الحضارة الإنسانية المعاصرة تمكنت من تقنين مسألة استخدام القوة عن طريق وضع القوانين الضابطة لهذا الاستخدام (تحييد المدنيين والحد من الضحايا البشرية، ومنع قصف المؤسسات الإنسانية والمحايدة وتوابعها، تحريم الإبادة، بالإضافة الى القوانين التي تحاكم مجرمي الحروب…الخ). ويمكن القول بأن هذه الضوابط تمكنت من الحد من الاستخدامات المباشرة للقوة. إلا أنها دفعت بالأقوياء لاختراع وسائل جديدة لممارسة قوتهم بالطرق غير المباشرة وعن طريق الحروب الصغيرة والمقسطة والرمزية وغيرها من حيل استخدام القوة بالواسطة. حتى أمكن القول بأن كل هذه الصراعات هي إرهاب يقف وراءه الأقوياء عن طريق مرتزقة يخدمون مصالح هؤلاء الأقوياء. وهذا ما يثبته السلوك الرسمي الأميركي في حوادث سينسيناتي الأخيرة (أبريل 2001) وقبلها لوس انجلوس وليتل روك وغيرها. كما تثبته الصلاحيات المعطاة للمخابرات الأميركية بعد الثلاثاء الأميركي. وهي صلاحيات تتطابق مع ما كان يسمى أميركيا" بالقمع الديكتاتوري والتعدي على حقوق الإنسان. وهي تهمة أميركية طاولت الدول المطبقة للشريعة الإسلامية. وكأنها المقدمة لاتهام الإسلام بالإرهاب.
وهنا لابد لنا من التفريق بين الإرهاب التابع للجريمة (وهو إرهاب يوقع ضحاياه لخدمة أغراض فردية أو مجموعة إجرامية منظمة) وبين الإرهاب المنطلق من مثاليات محددة. وهذا الإرهاب المثالي يقسم بدوره إلى فروع. فإذا كان الإرهاب بسبب تعجيل الحصول على الحقوق فهو اعتداء. أما الإرهاب الذي يأتي كردة فعل على كارثة معنوية تصيب شعوبا" بأكملها ويتوجه مباشرة إلى المعتدي المتسبب بهذه الكارثة فان هذا الإرهاب يندرج في قائمة الحقوق. وفي مقدمتها حق مقاومة الاحتلال. إذ أنه من غير العادل أن يسمح لطرف بالتسبب بكارثة معنوية للطرف الآخر فيترك المعتدي دون عقاب. ويتهم الضحايا المدافعون عن جماعاتهم ومثالياتهم بالإرهاب. خصوصا" وأن الكارثة المعنوية أكثر تسببا" بالأذى من تلك المادية. فالكارثة المعنوية تتخطى حدود الأفراد وتجعلهم يحسون بلا جدوى الحياة. بما يجعلهم جاهزون للموت دون تردد. ومثل هذه الجهوزية ضارة بالحضارة الإنسانية سواء ترجمت بالإرهاب أم لم تترجم. فهذه الجهوزية هي عار على هذه الحضارة ودليل على اختلال معاييرها وقواعدها.
وفي عودة إلى الثلاثاء الأسود فان السيكولوجيا تنظر لعمليات ذلك اليوم على أنها إرهاب ناجز وكامل. إذ لا توجد مبررات يمكنها الدفاع عن هذه العمليات وتبرير الضحايا البشرية الناجمة عنها. ألا أننا نتوقف لنسأل عما اذا كانت هذه الحوادث مجرد عمليات أم أنها حرب من الحروب المقسطة. فما ينطبق على الحروب لا ينطبق على العمليات. بما يستتبع القول أن الضحية لها أن تحاكم المعتدي عليها. لكنها لا تملك حق اختيار العدو بل عليها أولا" أن تحدد هذا العدو بدقة فائقة قبل أن تحاكمه وتنتقم منه.
ان على الولايات المتحدة أن تدرك أن ذلك الثلاثاء قد غير العالم. وأنه ليس من مصلحتها أن تثبت أعداءها وتهمل الأعداء الجدد المحتملين. فهذا الثلاثاء يأتي بعد وعود النهايات التي انطلقت من صدمة أصابت الولايات المتحدة بسبب فقدانها للعدو(1). فمع سقوط جدار برلين اختفى العدو ولم يعد للشيوعية وجود مادي يتحدى الليبرالية الأميركية. فكانت فرضية النهاية الأولى هي فرضية "نهاية الشيوعية". وهي النهاية التي استتبعت بقية النهايات فكانت "نهاية التاريخ" و "نهاية الايدولوجيا" و "نهاية الحدود" ومعها "نهاية الدولة الوطنية" عداك عن "نهاية القوميات" وغيرها من النهايات وصولا" إلى "نهاية العلم" التي أطلقها جون هورغان.
هورغان كان أكثر مطلقي النهايات صراحة ونضجا". اذ أعلن في مقدمة كتابه أن النهايات مشكوك بأمرها وهو ينشر كتابه لأنه وجد ناشرا" ينشره. وبذلك فهو يسخر من النهايات ولو بشكل مستتر. لكن السخرية الحقيقية من النهايات تكرست في حوادث الثلاثاء 11/9/2001 التي قضت على كل فرضيات النهاية فأحدثت بذلك فوضى فكرية أميركية لم يتطرق إليها كثيرون بسبب الانشغال بحوادث الثلاثاء وبالأحداث المتفرعة عنها.
ولنستعرض معا" دلالات ذلك الثلاثاء وأثرها على النهايات لنجد:
1. أن انتحاريين قاموا بعمليات الثلاثاء. ومهما تكن هوية هؤلاء فان إيديولوجيا ما تكمن وراء تضحيتهم بحياتهم. فالايدولوجيا وحدها القادرة على إقناع شخص ما للتضحية بحياته. وهذا يعني سقوط فرضية نهاية الإيديولوجيات.
2. ان تضحيات الحروب الصغيرة المتفرقة خلال التسعينيات بينت استمرار التاريخ والإيديولوجيات وأجبرت فوكوياما ،صاحب نظرية "نهاية التاريخ"، على تعديل نظريته ومراجعتها. وهذا يعني سقوط فرضية نهاية التاريخ (2).
3. إن حوادث الثلاثاء هي بحد ذاتها إعلان عن وجود عدو فاعل لنمط الحياة الأميركي ولنظرية السوق الأميركية. حيث نجح هذا العدو في نقل المواجهة من صعيد "من هوا لأقوى" إلى صعيد "من هو الأقدر على التسبب بالأذى". نازعا" عن الولايات المتحدة العنصر الأهم في عنجهيتها وهو عنصر التفوق العسكري. وهذا يعني سقوط فرضيات القوة العسكرية ومعها الجدار الصاروخي(3).
4. أنها بينت استحالة "صدام الحضارات". اذ احتاجت الولايات المتحدة لجمع الحلفاء والموافقات المعقدة قبل صدامها مع أفقر دولة في العالم عنينا بها أفغانستان. كما أنها اضطرت للقبول بانقلاب استراتيجي عبر تعاونها مع باكستان التي بقيت مصنفة كمارقة لغاية 14/9/2001 عندما بدت مستعدة للتعاون مع الولايات المتحدة. وهذا يعني أن الثوابت الإستراتيجية الأميركية أصبحت مرشحة للانقلاب (4).
5. أن اعتراف الولايات المتحدة باستمرار الإيديولوجيات لم يقف عند محاربتها العلنية لجماعة دينية بل تعدى ذلك إلى احترام التنوع العرقي الأفغاني في محاولات الالتفاف على طالبان. وهذا يشكل عودة للقوميات بعد أن أعلنت وفاتها مع إعلان نهاية القوميات.
6. أن حاجة أميركا الى عدو هي حاجة حيوية لدرجة قبولها خوض الحرب ضد أفراد. واضطرارها لإيجاد عدو جاهز يساعدها على تقنين ذعر الأميركيين والهيستسريا الجمعية التي اجتاحتهم اثر حوادث الثلاثاء. وهذا يسقط كل نظريات الأحادية العالمية.
7. أن جهوزية الرأي العام الأميركي لاتهام الشرق أوسطيين بحادثة أوكلاهوما (1995) ،ومن ثم اتهام بن لادن بحوادث الثلاثاء دون أي تردد أو تشكيك، هي جهوزية تعكس خوف هذا الجمهور من المجهول وحاجته الملحة لتعريف العدو. ذلك أن العدو الخفي أكثر اثارة للخوف. وهذا يؤكد على واقعة كون نمط الحياة الأميركي مجرد نمط سلوكي قابل للتغيير وحتى للانقلاب في حالات تهديد الرخاء الداعم لهذا النمط.
8. أن الأزمة الاقتصادية الأميركية السابقة لذلك الثلاثاء وحجم المساعدات (ضخ الأموال في السوق الأميركية) التي احتاجها هذا الاقتصاد يبينان هشاشته وقابليته للانهيار. وليس أدل على ذلك من انخفاض مؤشر داو جونز 684 نقطة يوم عودة افتتاح البورصة في 17/9/2001 مما يؤكد واقعة عدم قابلية نظام السوق للعولمة. بما يعادل سقوط العولمة الاقتصادية التي لم تكن سوى أمركة الاقتصاد العالمي (5).
9. أدت حوادث الثلاثاء الى تهديدات جدية لاقتصاديات الدول المرتبطة بأميركا. ومن هنا اقدام هذه الدول على دعم الاقتصاد الأميركي لأن انهياره يعني انهيارها تاليا". مما سينعكس لاحقا" بمحاولة هذه الدول فك ارتباطها بالاقتصاد الأميركي. الأمر الذي سيبدل "نهاية التاريخ" ب "نهاية السوق"!.
10. أبرزت حوادث الثلاثاء أزمة الاعتراف لدى شعوب العالم الثالث. حيث أدت العولمة الاقتصادية الى تكبيد هذه الدول لخسائر غير محتملة وأجبرتها على تقديم تنازلات قاسية. حتى باتت شعوب هذه الدول باحثة عن الاعتراف ( بالمعنى الهيغلي/ نسبة الى الفيلسوف هيغل). الذي يتعلق بكرامة هذه الشعوب وكيانها. بحيث يمكن للاعتراف أن يكون مولدا" للصراعات والحروب بغض النظر عن المصالح واتجاهات موازين القوة. فاذا ما قارنا هذا الاضطهاد بمثيله الالماني خلال فترة ما بين الحربين العالميتين لوجدنا انه يؤسس لقيامة الفاشية (6).
11. ان مراجعة التدابير الأمنية الوقائية في الولايات المتحدة عقب الثلاثاء. ومن ثم الصلاحيات الاستثنائية التي منحها الكونغرس للمخابرات ومعها معونة عشرة مليارات دولار يتبعها مبلغ سنوي بقيمة ثلاثة مليارات دولار لمكافحة الارهاب الداخلي. تبين أن العولمة نفسها باتت بحكم المنتهية. اذ أن "نهاية العولمة" تكرست مع الغاء السرية الشخصية والمصرفية ومع وضع الحدود لحرية الاتصالات والخوف من ركوب الطائرات. وهي نهاية دشنتها مظاهرات سياتل حيث صرح رئيس منظمة التجارة العالمية بالقول: " اننا ندرك الآن أن أميركا ليست حليفنا فقد أنزل كلينتون 70 ألف متظاهر لمعاداة العولمة في سياتل ليدعم مرشحه آل غور".
انطلاقا" من النقاط المعروضة أعلاه نجد أن النهايات تشهد انقلابا" جذريا" عقب الثلاثاء. فالعالم قبل ذلك الثلاثاء هو غيره بعد ذلك اليوم. حيث سقطت النهايات المطروحة في التسعينيات لتحل مكانها نهايات العولمة ودولة ما بعد الحداثة وبدايات بعث الايديولوجيات والقوميات وكذلك انبعاث الفاشية التي أسس لها انتخاب هايدر زعيما" نمسويا". وبذلك ينتهي عقد التسيعينيات الطارح لفرضيات النهاية بنهاية تختصر كل النهايات وهي "نهاية العولمة". حول هذه النهاية يجب أن يتركز النقاش ومعه مراجعة الفوضى الفكرية لعقد التسعينيات. وهي فوضى كانت انعكاسا" للفوضى العالمية التي خلفها غياب الاتحاد السوفياتي وقصور الليبيرالية الأميركية عن الرقي الى مستوى النظرية الفكرية السياسية. فاندلعت الفوضى من اطلاق فرضية نهاية الفكر السياسي أو الإيديولوجيا.
في خضم هذه الفوضى أبحرت الولايات المتحدة محاولة أمركة العالم عن طريق عولمة "نمط الحياة الأميركي". هذا النمط الذي يرتكز إلى سياسة المصالح ليسقط المباديء. فتبين للولايات المتحدة أن أمركة العالم مكلفة ومتعارضة مع مصالحها. مما أدى بداية إلى زيادة التعصب لمبدأ السوق الأميركي. حتى تحول هذا المبدأ الى ايديولوجيا جديدة!. وهو أمر أوقع الليبيرالية في مأزق وجعل الإدارة الأميركية تدرك واقعة عدم قابلية مبدأها السوقي للعولمة. فكان أن بدأت هذه الإدارة بالانسحاب من العولمة. إلا أنها فضلت الخروج من الباب الخلفي متسللة كي لا تواجه العالم المتضرر من عولمتها.
أما عن علائم التراجع الأميركي عن العولمة فهي كانت كثيرة وان اتسمت بالتكتم والمواربة. ومن أهم هذه العلائم نذكر التالية:
1. معاودة إحياء حلف الناتو بإدخال تعديلات استراتيجية توسع نفوذه وتعطيه حقوق التدخل خارج أراضيه. الأمر الذي يعطل دور الأمم المتحدة في المناطق التي يعلنها الحلف متعلقة بمصالحه. بما يمكن اعتباره الخطوة القانونية الأولى نحو إلغاء دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن (7).
2. الإصرار الأميركي على توسيع الحلف بقبول أعضاء جدد فيه. بما يعكس ضمنا" الاعتراف بضرورة جمع الأصدقاء لمواجهة عدو ما. وكي لا تعترف الولايات المتحدة صراحة بوجود هذا العدو فقد كانت تلتف على هذا الاعتراف بالحديث عن الدول المارقة والداعمة للإرهاب والإرهاب نفسه. مما يعني أن هؤلاء يهددون المصالح دون أن يرقوا إلى درجة العدو. وجاء الثلاثاء ليعلن أن العدو الخفي للولايات المتحدة هو عدو مكتمل وقادر على إلحاق الأذى الفادح بمصالحها. وما اللجوء لاتهام جماعة توصف بالإرهابية في حوادث الثلاثاء إلا تهرب أميركي أخير من الاعتراف بوجود العدو. وبالتالي الاعتراف بنهاية العولمة ونظامها العالمي وقطبها الأوحد (.
3. إجبار دول الاتحاد الأوروبي على قبول تعديلات الناتو بما فيها تلك المتعارضة مع مباديء الاتحاد. بما يعتبر تدخلا" في الشؤون الداخلية للاتحاد ولدوله. الأمر الذي جعل دول الاتحاد تدرك مدى الغبن اللاحق بها بسبب الحلف وتحت حجته (9).
4. الإصرار على مشروع الجدار الصاروخي. الذي يلغي اتفاقية الحد من الصواريخ الموقعة عام 1979 مع الاتحاد السوفياتي. ويهدد المصالح الحيوية لروسيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي وهي دول أجمعت على معارضة هذا المشروع ولكن دون جدوى. مما جعل من العولمة مجرد شعار يغطي الأمركة بمعنى السيطرة الأميركية على العالم. وهي سيطرة انما ترمي الى تعزيز السيطرة الاقتصادية الأميركية.
5. خروج الولايات المتحدة على مباديء منظمة التجارة العالمية. وذلك عبر تخصيصها 4 مليارات دولار لدعم صادراتها ( تمنع قوانين المنظمة دعم السلع لتحسين قدرتها على المنافسة). بما يشكل أول أشكال الخروج على قوانين العولمة.
6. دعم كلينتون و الإدارة الأميركية لمظاهرات سياتل المعادية للعولمة. وهو ما أعلنه صراحة رئيس منظمة التجارة العالمية خلال مؤتمر جنيف للمنظمة. وهذا يعني تواطوء الإدارة الأميركية ضد دول المنظمة ومصالحها. الأمر الذي يجعلنا لا نتعجب من مشاركة إحدى هذه الدول في أحداث الثلاثاء.
7. استكمالا" لسياسة الأحلاف لم تكتف الولايات المتحدة بإحياء حلف الناتو بل هي شجعت الأحلاف الفرعية. مثل الحلف الإسرائيلي- التركي الطامح الى ضم دول مجاورة عديدة في محاولة لإحياء حلف على غرار حلف بغداد السيء الذكر.
8. الإصرار على الاستمرار في سياسة الحصار (متعدد الدرجات) يطبق على الدول المارقة. بما يعكس الاعتراف بوجود أعداء بغض النظر عن مدى فاعليتهم.
9. سياسة التكسب الأميركية بافتعال أو بتشجيع الحروب الصغيرة المقسطة. مثال ذلك حرب كوسوفو التي خاضها كلينتون دون أن يعلنها حربا". بما يستتبع التساؤل عن مشروعية محاكمة ميلوسوفيتش كمجرم حرب طالما أنه لم يعترف بها حربا". كما أن الصحافة الأوروبية تتفق على أن ميلوسوفيتش لم يرفض الاقتراحات الأميركية للسلام في كوسوفو. فجل ما فعله هو تقديم بعض الاعتراضات الشكلية. ومن هنا فان وقوع الحرب انما يعود الى رغبة الولايات المتحدة فيها وحاجتها لها. هذا عداك عن الضربات الأميركية المقسطة للعراق والتهديدات الموزعة على دول عديدة بوسائل مختلفة.
10. رفضت الولايات المتحدة إدراج النفط ضمن سلع منظمة التجارة العالمية وأيدتها في ذلك اليابان والدول الأوروبية (بوصفها دول مستهلكة تتضرر من ارتفاع أسعار النفط). لكن إدارة بوش رسمت استراتيجيتها الاقتصادية اعتمادا" على النفط. بحيث يمكنها إنقاذ اقتصادها عن طريق التلاعب بأسعاره. مما يؤدي إلى إجبار اليابان والاتحاد الأوروبي على تغطية أية خسائر أميركية مقبلة.
11. إكمالا" لسيطرتها على أسعار النفط عمدت الولايات المتحدة لتهديد السودان بحرب أهلية ان هو تمرد على سياستها النفطية. كما مددت لإيران خمس سنوات على قائمة الدول الداعمة للإرهاب. إضافة لتواجدها العسكري في الخليج العربي. ليبقى نفط القوقاز بحاجة إلى بعض الحروب الرمزية المقسطة للاستيلاء عليه.
12. اختراع مصطلحات طحلبية ( من طحالب) لتبرير التدخل الأميركي في شؤون الدول الأخرى. كمثل مصطلحات الإرهاب وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات والحقوق عامة.
هذه مجرد أمثلة على التمادي الأميركي في اعتماد سياسة المنفعة واستغلال الأصدقاء قبل الأعداء. هذا التمادي المصحوب بفوضى داخلية لم يعد تصديرها الى الخارج ممكنا" فكان انفجارها داخل أميركا. حيث المأساة الأميركية الراهنة هي مأساة اقتصادية. فهذأ البلد يفقد ألف شخص أسبوعيا" في حوادث السير. وبالتالي فانه قادر على استيعاب صدمة الثلاثاء خلال سبعة أسابيع ( بداية نوفومبر تكون الصدمة قد هضمت). وهو يملك سياسته واستراتيجيته الخاصة في التعامل مع العالم. فقط الاقتصاد هو نقطة ضعفه المميتة راهنا". والنفط العربي هو المنقذ الوحيد لهذا الاقتصاد. فبمراجعة مؤشرات الأسهم الأميركية نجد أنها لم تتوازن إلا بعد إنزال سعر برميل النفط إلى ما دون العشرين دولارا". حتى أنه انزل 4 دولارات دفعة واحدة وفي يوم واحد. ليشكل صدمة تجذب المضاربين لتريح الأسهم الأميركية. ولا نبالغ بالقول أن ارتفاع سعر البرميل إلى المستوى الافتراضي له في مثل الأزمة الحالية ( يفوق ال 50 دولارا") كفيل بعودة المؤشرات الأميركية للهبوط المريع. كما أننا لا نبالغ بالقول أن النفط هو منقذ الاقتصاد الأميركي خلال الفترة القادمة. وعليه فان على الولايات المتحدة أن تدرك أن بإمكانها ان تحصل على مفاجأة كسب أصدقاء عرب جدد ان هي أحسنت التصرف. وعلى المفاوضين العرب أن يدركوا إمكانية الصداقة المناسبة مع أميركا إذا كانت مرونتها كافية لدفع ثمن استراتيجي بسيط هو رفع الظلم عن كاهل الإنسان العربي ودوله. فالعلاقة بين الجمهور والسلطة مضطربة لكنها ثقافة لا تسمح بوساطة الغرباء. وخصوصا" الوساطة المفتعلة من أجل الأقليات. فالعروبة تجعل من أقلياتنا تتباهى بعراقتها وبفعاليتها الحضارية وليس بعدد اتباعها. ذلك أن قوميتنا لا تصنف الإنسان وفق أي من محاور الانتماء الثانوية. فالمحور الأساسي لثقافتنا هو القومية التي سبق وأن أعلنوا وفاتها. وإتهموا بالرومانسية كل المصرين عليها والمتمسكين بها هوية حضارية. وقد آن أوان الاعتراف بها. فالبحث عن هذا الاعتراف هو المحرك للشهداء الذين تساقطوا في الجنوب لغاية التحرير والذين يتساقطون في الانتفاضة وفي أكثر من مناسبة جالبة لهذا الاعتراف. فلتسجل الولايات المتحدة هذا الاعتراف لتكسب صداقة العرب المفاجئة. خاصة وأن الإصرار على إنكار القومية بات يصطدم بالشارع العربي الذي لم يعد قابلا" للسيطرة. بل أنه يهدد باعتماد توجهات وحلول قد تكون فائقة الصعوبة والأثر على المصالح الأميركية ومستقبلها في المنطقة.
الهوامش والمراجع
1. همس مستشار غورباتشوف المدعو جورجي آباتوف في أذن مسؤول أميركي كبير ،قبيل سقوط جدار برلين، بالعبارة التالية: " اننا نصيبكم بخطب جلل فنحن نفقدكم العدو!" وكان آباتوف على حق اذ فقدت المصالح الأميركية وجهتها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وهي لاتزال فاقدة للتوجه حتى اليوم. وهذا ما أكده الاستراتيجي الاميركي صموئيل هنتنغتون في مقالته المعنونة "تآكل المصالح الأميركية" The Erosion of American Interest . المنشورة في مجلة شؤون خارجية الأميركية.
2. كان فرنسيس فوكوياما قد طرح فرضية "نهاية التاريخ" العام 1993 وفيها رأى أن ليبيرالية السوق سوف تجتاح العالم دون منازع ودون صراعات. فلما استمرت الحروب الصغيرة خلال عقد التسعينيات قام فوكوياما بتعديل فرضيته قائلا" بأن الثورة البيولوجية ستدعم نهاية التاريخ. وكان لنا رد على هذا التعديل في مجلة "الكتب /وجهات نظر" ضحدنا فيها طروحاته القديمة او الجديدة.
3. بعد حوادث الثلاثاء لم يعد مشروع الجدار الصاروخي مقنعا" لأن الأذى يتأتى من جهة لايمكن للجدار تأمين الحماية منها.
4. كان فك الحصار عن باكستان ،الدولة المارقة المتحالفة مع الصين، والتحالف معها بداية الانقلابات الاستراتيجية الأميركية. والوضع الأميركي يستوجب سلسلة طويلة من هذه الانقلابات. التي ستشكل مفاجآت غير مرتقبة في السياسة الأميركية خلال الشهور القليلة القادمة.
5. أشار المضارب الشهير في البورصات المدعو جورج شوروش في كتاب له بعنوان " أزمة النظام الرأسمالي العالمي" الى عدم قابلية نظام السوق للعولمة بسبب وجود عدة فيروسات فيه تجعله غير قابل للاعتماد بشكله الحالي. وقد عرضنا للكتاب في كتابنا الصادر عن مركز الدراسات النفسية تحت عنوان " النفس المفككة/سيكولوجية السياسة الأميركية".
6. كان انخاب هايدر في النمسا بادرة ومقدمة للاعلان عن قيامة الفاشية. ويكفينا التذكير بالحماسة التي رافقت انتخابه وبالاصرار عليه رغم الضغوطات الاسرائيلية والأميركية والأوروبية.
7. ان الميثاق الجديد لحلف الناتو يعطي الحلف الحق بالتدخل في المناطق التي يعلنها حيوية لمصالحه دون استشارة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو أية جهة أخرى.
8. ان استمرار تجسيد وتكثيف العدو بشخص بن لادن سيدفع الولايات المتحدة لحمايته حفاظا" على عداوته. وهو مأزق لابد من الخروج منه قريبا". باعلان عدو أو أعداء جدد للولايات المتحدة.
9. تورطت دول الاتحاد بالانفاق على اعادة اعمار كوسوفو اضافة الى تورطها في الانفاق على حرب كلينتون الرمزية على كوسوفو. مما أدى الى تدهور سعر اليورو الوليد وطرح أعباء مالية ضخمة على دول الاتحاد. ومع مجيء بوش وتراجعه عن وعود كلينتون للأوروبيين عاد هؤلاء للحديث عن انشاء القوة الأوروبية للتدخل السريع. التي تعتبر تحديا" للولايات المتحدة. مع الإشارة الى رفض الاتحاد لمشروع الجدار الصاروخي. مما يبرر الاستنتاج بأن الاتحاد يعاني أو يحس بالاضطهاد الاميركي لدوله.